جلس أبو عصام معانقا قدح قهوته متأملا مسائه الذي حمل معه قمرا خجولا يرسل إشارات خفية تبعث السخرية في ديباجة الحياة، تلك التي تحمل بين طياتها حروف الأقلام على بيضاء غافلة عما يصيبها من حبر الأيام ، أيام يدور رحاها الأعمى غير ناظر لما يدوس تحته إن كان حنطة أو بقايا إنسان.
حصل على ما أراد فهو الآن حصل على وثيقة الإقامة في حارته العجوز مرة أخرى وطبق قرارات محكمة النفس بحذافيرها مع أن ذلك كان مجهدا جدا بالنسبة له، حيث انه لا مجال للخطأ أبدا هنا، فكل خطوة كان عليه حسابها جيدا وقياس مداها بالنسبة لمرحلة ما بعد العودة وانسجامها مع العالم الخاص.
كان مثقلا مجهدا من غبار الدهر الذي أضاف المزيد من أحماله على كتفيه، فدخل متحفه وتأمل ماضيه ليس بنظرة الندم ولكن بنظرة المتعلم منه،أعاد شريط ذكرياته كمن يتأمل القطع الثمينة في متحف، كل قطعة فيه لها قيمتها وتحكي تاريخ مرحلة زمنية غادرت بلا عودة وبقيت هي الشاهد على كلمات من مروا في تلك اللحظات الغابرة.
كان مقتنعا بأن الحياة معادلة صعبة معقدة الرموز تظهر الوجه الملائكي الذي يدعوك إلى التصرف بفطرة وهدوء لكنه بالمقابل كان لديه عنوان آخر مؤمن به، كان مقتنعا بالمقولة الهندية:
(يقولون إن الجروح تشفى بمرور الوقت..
ولكن هناك جروح تزداد ألما بمرور الوقت..)
هذه المقولة بالنسبة له كانت عنوانا ثابتا لا مجال فيه للنقاش، فما أفسده الزمن لا يعود ولكننا نضحك على أنفسنا ونعمل على تلاشيه أو تداركه أو نحاول إخفاء أثره علينا.